عبقرية الاستهبال (2 من 3):ـ
زحام العبقريات، وديدان الأرض!ـ
جلست أفتش عن أى العبقريات كان سيكتب العقاد لو أنه بُعِث من قبره ليرصد بقلمه ما صار يطغى علينا من عبقرية ديدان الأرض: هل تراه كان يكتب عن عبقرية الجهل، أم عبقرية "الفهلوة"، أم عبقرية العشوائية التى صارت تأكلنا كما تأكل النار الهشيم؟ أم تراه كان يكتب عن عبقرية الفوضى، أم عبقرية التخلف، أم عبقرية الحماقة، أم عبقرية الانحطاط؟ دعونا لا ننسى فى زحام العبقريات عبقرية الكذب، وعبقرية المغالطة، وعبقرية المراوغة، وعبقرية المماطلة، وعبقرية الوعود الفارغة! ثم ماذا عن عبقرية الفساد، وعبقرية التبديد، وعبقرية التمويه، وعبقرية التبرير، وعبقرية الاحتفال باللاشئ؟! ماذا عن عبقرية الاستسلام باسم الحكمة، وعبقرية التبعية باسم التنمية، وعبقرية النهب باسم الإصلاح، وعبقرية تفتيت الدولة باسم اللامركزية، وعبقرية تفكيك التاريخ باسم ثقافة السلام، وعبقرية طمس الهوية باسم الانفتاح، وعبقرية اختطاف الدين باسم محاربة الشيوعية حيناً وباسم محاربة الإرهاب حيناً آخر؟! وماذا عن عبقرية اليد السفلى، وعبقرية الوقاحة، وعبقرية التبجح، وعبقرية الوجه المكشوف؟! ماذا عن عبقرية التغييب، وعبقرية التغريب (من الغُربة لا الغرب)، وعبقرية خلط الأوراق، وعبقرية المومس الفاضلة؟! ماذا عن عبقرية النفاق، وعبقرية التملق، وعبقرية المديح، وعبقرية مخاطبة الغوانى اللائى يغُرُّهن الثناءُ؟!ـ
حسبت مهمة العقاد تكون جد عسيرة وهو يبحث عن عبقرية يكتب عنها، وحسبته إن هو بُعِث من قبره يختار عبقرية الرجوع إلى القبر، عَلَّه فى قبره ينقذ نفسه وينقذ قلمه من طغيان كل هذه العبقريات التى اختلطت أوراقها، فما عاد المرء – حتى وإن كان العقاد – بقادر على الفرز أو الاختيار! حسبت هذا لولا أن ارتدَّت بى الذاكرة إلى ماضٍ يبتعد عنا بنحو عشرين عاماً أو يزيد، لأجد ضالتى فى عبقرية تحتضن تحت جناحيها كل ما سبق أن طرحت من عبقريات، أعنى عبقرية "الاستهبال"!! واللفظ ليس من عندى، ولا كنت أستطيع نحت هذا المصطلح "العبقرى" لو لم يكن قد نحته أصحابه علناً وهم يخاطبون الدنيا فرحين بما وُهِبوا من أسباب "العبقرية"!!ـ
وقتها، منذ نحو عشرين عاماً أو يزيد، كان قد خرج علينا أحد حكماء هذا الزمان بخطاب يلقيه إلى شعبه – أو هو يلقيه عليه! – ارتجالاً فى إحدى المناسبات، متشبهاً بعظماء العهود التى خلت حين كانوا يرتجلون الخُطَب وينسجون من خيوط اللحظة أروع الكلمات؛ ولأن أجهزة الإعلام كانت قد جعلت من هذا الحاكم "زعيماً" ينطق بآيات الحكمة، بل وجعلت منه تجسيداً حياً لمجد تاريخ تليد، فقد أذيع الخطاب وقتها على الهواء مباشرة علَّه يُسمِع صوت القائد والزعيم للعالم أجمع، ويثبت للجميع أن على رأس هذه الدولة "المحظوظة" عبقرية نادرة، قَلَّ أن يجود الزمان بمثلها، اللهم إلا مرة أو نحو مرة كل بضعة قرون!!ـ
أخذ الرجل يحكى عن تجربة له حين كان يدرس العلوم العسكرية بروسيا (الاتحاد السوڤييتى سابقاً)، إذ طلب بلسانه وهو يمارس حياته بين المواطنيين الروس ما استهجنه الناس، فقد كانت القواعد تقضى بأن لا يحصل كل فرد يقف بـ"الطابور" على أكثر من عبوة سكر واحدة، لكن صاحبنا طلب ست عبوات دفعة واحدة! فلما واجهه زملاء "الطابور" بما لا يحب أن يسمع، قرر الزعيم – الذى كان شاباً - أن يلجأ للاستهبال! والمصطلح – مرة أخرى – ليس من عندى، وإنما هو المصطلح كما اختاره "الزعيم" وهو يلقى خطابه على مسمع من العالم أجمع!!ـ
"قلت استهبل"! قالها الرجل معجباً بعبقريته، دون أن تهتز تحت أقدامه الأرض، ودون أن ترتج فوق رأسه أركان السماء! فقد قرر صاحبنا – وفق روايته لا روايتنا – أن يوهم من استهجنوا قوله من المواطنين الروس بأنه إنما كان يقصد غير ما نطق به، وأن الأمر لا يعدو كونه خطأً تسبب فيه عدم إلمامه باللغة، فأخذ يكرر ما استهجنه القوم من قوله وهو يشير بإصبعه إلى ما يخالف قوله، إذ كانت حركة الإصبع تشير إلى العدد "واحد" لا إلى العدد "ستة"، بينما يردد اللسان العدد "ستة" لا العدد "واحد"! وهكذا تخلص صاحبنا من المأزق بأن أهدر لغة اللسان ولاذ بلغة الإشارة، أو قل إنه خلط بين اللغتين فكُتِبت له النجاة، ومن خلط بين الأمور فى أيامنا هذه كان له المجد، يجلس على كرسيه، ويمسك بصولجانه، ويحيط بتاج الحكمة رأسَه، حتى وإن لم تحط رأسه بشئ مما خُلِقت الرأس لتحيط به علماً!!ـ
كانت هذه هى القصة "العبقرية" التى أثبت بها صاحبنا – على الهواء مباشرة - استحقاقه للإمساك بمقاليد الحكم فى بلاده: فما دام الحاكم يجيد بفطرته لغة "الاستهبال" – كما نفهم من روايته – فإن أمور الدولة وأمور الأمة تكون فى أيد أمينة، وما على الشعب إلا أن يطمئن، وما عليه إلا أن "ينام" قرير العين والأنف والأذن والحنجرة ... وخاصة "الحنجرة"! هكذا استخف الرجل بطانته فوافقوه، وخرج على مواطنيه يباهى بعبقرية "الاستهبال" التى وهبته إياها أرباب "الأوليمپ" فصفقوا له! وما دام ذلك كذلك، فقد صار على عرشه يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول، والناس فى حيرة من أمرهم، لا يدركون مقصد قوله، ولا هم يحيطون بمقصد فعله؛ فلسانه – منذ كان يدرس فى روسيا – يقول شيئاً، وإصبعه يشير إلى شئ آخر! فإن كانت سلامته فيما قال فقد انحاز لقوله، وإن كانت السلامة فيما يفعل فقوله فعله!!ـ
جعلتنى هذه القصة "العبقرية" أسائل نفسى عن هل صارت العلاقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم فى بلادنا تحكمها عبقرية "الاستهبال"؟! حاكم يؤكد لشعبه إنه القائد الضرورة الذى لا يمكن الاستغناء عنه، وشعب يؤكد لحاكمه إنه بالروح والدم سوف يفتديه! كلاهما يعلم أنه كاذب، وكلاهما يعلم أن الآخر إنما يكذب عليه! فـ "الضرورة" سيدركها الموت حتماً ولو كانت فى بروج مشيدة، وبقاء الأمة – كل أمة – مشروط دائماً بقدرتها على أن تلد رجالاً تستغنى بهم عمن أدوا أدوارهم من الرجال، وعلى أن تلد نساءً تستغنى بهن عمن أنهين أدوارهن من النساء؛ وليس من يجهل أن أحداً – حين تحين لحظة النهاية – لن يفدى أحداً، كما لن يفتديه أحدٌ، لا بالروح، ولا بالدم، ولا حتى بشربة ماء حين يشح الماء! الكل يعلم أن من هتفوا لقيصر إنهم إنما يموتون من أجله لم يكونوا يملكون الحق فى اختيار ساعة الأجل، وأنه حتى "پروتوس" – حين كثرت السكاكين – قرر أن يدفن خنجره فى قلب قيصر! ورغم ذلك فمازالت الضرورة تحكمنا، ومازال الفداء بالروح والدم وقوداً لاستمرار الضرورة، أو هو شرط اشتعال ووهج عبقرية "الاستهبال"!ـ
عبقرية الاستهبال"، كنت قد نشرت مقالاً بمجلة "سطور" الثقافية القاهرية منذ نحو ست سنوات، وتحديداً بالعدد رقم 90 الصادر فى شهر مايو 2004؛
ReplyDeleteHazem Hosny 2010